كان موسى قوي الظهر مسدد الخطى يستمد العون والتوفيق من الله العلي الكبير ، وكان السحر فنا ذاع في بني مصر أمره ،،، واشتهر شأنه ،،،، فظهر منهم الساحر الذي يخلب العقول .... ويسترق الفؤاد ، ويلعب بالالباب لعب النكباء بالعود .... برعوا في هذا الفن واتقنوه ،، فليس يباريهم سابق ،،، ولا يبلغ شأوهم لاحق ...
ومن هذه الناحية وحدها شاءت إرادة الله ان يعجز القوم ،، وأن يقفهم دهشين ذاهلين ، إذ تصوب سهامهم الى نحورهم ، فلا يستطيعون ردها ، ولا هم ينظرون ...
تلك حكمة أرادها الله ، فأجرى المعجزة على يد نبيه موسى ، تحاكي ذلك النوع الذي برع فيه القوم ، حتى يفرغوا كل كنانتهم ،،، ويستنفدوا كل جهودهم ،، فإذا عجزوا في محط سبقهم ، وغاية براعتهم فهم عن غيره من الاعمال أعجز ..... وحينئذ فكلمة الله هي العليا ,,,,,,وكلمتهم هي السفلى ،،، والله لا يهدي كيد الخائنين ...
القى موسى عصاه التى أودعها الله القوة الخارقة ،، فإذا هي ثعبان مبين ... شده فرعون ، وتملكه مزيج من الكبرياء والحيرة ،،،، ثم
قال : هل من غيرها ؟ ظانا بأن ذلك نهاية الشوط ... وأن موسى لا بد عاجز ، ولكن الرسول أدخل يده في جيبه ثم نزعها ،، فإذا شعاع ينبعث منها يكاد سنا برقه يأخذ بالابصار ،،،، ويذيع وينتشر حتى ليكاد يسد الأفق ...
بعد ذلك ضاقت مسالك القوم أمام فرعون ،،، وغشيه هم واكتئاب ،،، ولج به حرصه على ملكه وجبروته ،، وبهره سلطان المعجزة ،،، فأنزله من عليائه ،، وصغر شأنه في عين نفسه ،،، فنسى أنه ربهم الأعلى ،، وأنه ما علم لهم من إله غيره !!!! ثم عمد الى التمسح في أذيال قومه ،،، ومداهنتهم ... فأشركهم في الامر ،، وتبادل معهم المشورة والرأي ،،، وتقدم لمؤامرتهم ،،، وتنفيرهم من موسى ،،، ملبسا الباطل ثوب الحق ،،، والخديعة والتدليس ثوب الصراحة والحقيقة ..
فقال : يا قوم ،، هذان ساحران يريدان ان يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ،، فما ترون ؟
فقال انصاره وحواشيه احبسهما وابعث رجالك في المدائن يأتوك بكل ساحر عليم ....
صادف هذا الرأي هوى في نفس فرعون ،، وهو الذي يتعلق بخيوط واهية ،،، ويستمسك بالامل الكاذب ،،، ويستند على اوهن أساس لعل فيه الخلاص والنجاة ...
فجد في جمع السحرة من كل مكان ،،، كل ذلك والهواجس والوساوس تتنازع نفسه ، خوفا على صولته ،، وفرقا على دولته ،، إذ قال لموسى في نكران ودهش :
( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) سورة طه
ما بال فرعون اضطرب وجزع ؟! وتقطعت نفسه وهلع ! اليس هو الإله المتجبر ؟! او ليست له قدرة وكرامة ؟! إنه أمام تلك القوة الخارقة التي أجراها رب الارباب على يد بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق !
قال فرعون لموسى :
(فأجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا انت )سورة طه
قال موسى : موعدكم يوم العيد ، يوم اجتماع الناس وزينتهم ، حتى يشيع الحق ، وينبلج النهار
جد فرعون واجتهد وجمع السحرة وأتى بهم في ذلك الزمان وهذا المكان ، تتمشى في نفسه بقية من الامل ، ورغبة شديدة ملحة من الحرص والسطلة ، يدفعانه دفعا الى مساجلة موسى والقضاء على دعواه ، ولكن هيهات أن يدنس الشمس غبار ثائر ،، أو يحط من قدر العدالة سلطان جائر :
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
تلفت موسى فوجد حشدا هائلا من السحرة ،
فقال لهم : الويل لكم ان افتريتم الكذب على الله ، فدعوتم معجزاته سحرا ، ولم تصارحوا فرعون بالنور الساطع ، والحق القاطع ،، فتظهروا له ما بين سحركم وإعجازي ، وتفرقوا بين باطلكم وحقي ، من احتال منكم ليبطل حقا ، أو يحق باطلا فقد خاب ، وباء بالخسران المبين ...
كان كلام موسى نداء الحق رن في آذان الساحرين ، فأقاقهم من غشية الضلال ، وأزال عن أفئدتهم حلك المحال ،،، وفتق أغشية قلوبهم لتصيخ لدعوة الحق ،،، ولتستبين طريق الرشاد ...
ائتمر السحرة بأمر فرعون ، لم يتخلف واحد منهم ،، فإذا بهم آلاف ، مع كل واحد منهم حبل عصا ، مقبلين إقبال رجل واحد ، ومشمرين عن سواعدهم ، ليكون ذلك أدعى الى تسرب الخوف الى موسى واخيه .. وبث المهابة في نفوس الرائين ...
نادى فرعون في قومه ..... حاثا لهم على الاسراع ،،، والبدار ،، ليشهدوا ذلك الحفل العظيم ،،، ساعة الضحى من يوم العيد ،، يوم يتبارى القرنان ويتساجل الخصمان .
جاء الناس مدفوعين بالرجاء في نصرة الساحرين ،، لما رسخ في نفوسهم من الضلالة ، وران على قلوبهم من الجهالة ، فسلبهم سلامة التقدير ، وصحة التصوير ...
أقبل السحرة مدلين بعلمهم ،، مزهوين بغرورهم ، وكيف لا يدلون ويعجبون وهم فوارس الميدان ، وجياد الرهان ،، ومناط الامل ،،، ومحط الرجاء ؟
قالوا لفرعون : ألنا أجر إن غلبنا ؟
فقال : لكم أحر وقربى ! تنعمون في حماي ، وتسعدون بجواري ، وتنزلون موارد الرفاغة والترف والنعيم ، لأنكم تشدون أزري ، وتقوون ظهري ، فاطمأن السحرة لهذا ، ودارت برؤسهم كؤوس الامل ، فأقبلوا مدفوعين ، ثم ....
قالوا : يا موسى ، إما أن تلقي ، وإما أن نكون أول الملقين ...
فلم يبال موسى بسحرهم ، واستخف بخطبهم ، وأذن لهم بأن يلقوا حبالهم وعصيهم ، حتى يستنفدوا أقصى وسعهم ، ويفرغوا غاية جهدهم ، ثم يظهر الله سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه ...
تقدم السحرة وألقوا ما في أيديهم ، فخيل لموسى أنها حيات على الأرض تسعى ، ولكنه وهم تسلل الى خلجات نفسه حذرا وخوفا أن يؤخذ الناس بهذا الظاهر المموه ، الباطل المشوه ، فينصرفوا عن دعوته مدبرين ،، ولكن حماة الله ورعاه ...
فقال : لا تخف إنك انت الأعلى ، ولا تحفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها ، فإن العويدة التي في يدك أخطر شأنا وأعظم اثرا ، فألقاها فإنها بقدرة الله تبتلع ما افتعلوا وزوروا ، وموهوا وضللوا ، فما كل ذاك إلا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ..
هدأت حصاة موسى ،، وألقى عصاه ، فإذا هي تلقف ما يأفكون ، فإذا السحرة يلمسون الحقيقة الرائعة ، ويتبينون الرشد من الضلال ، والحق من المحال ، فإذا هم يخرون ساجدين ، توبة عما صنعوا ، وخشوعا لهيبة الحق ،، وإكبار لذلك الخطير .
غلت مراجل الحقد والحفيظة في صدر فرعون ، واحتدم غيظه لتلك المفاجأة الغريبة التي فاجأته ، مستطيرة الشرر شديدة الضرر ،، على حين كان يرجو من ورائها تقوية لسلطانه ، وتدعيما لبهتانه ، فإذا هي عاصفة هوجاء تفوق ذلك العرش الذي اسس على الزور والبهتان .
لم يجد فرعون في كنانته إلا أن يشبع نهم غيظه ، ويستر مرارة خجله ، فقال : أتؤمنون له ، وتخضعون لحكمه قبل أن آذن لكم ؟ اليس في ذلك اتفاق مقرر ورأي مدبر ؟
حقا إنه لأستاذكم ، وكبيركم الذي علمكم السحر ، فاتفقتم معه على فعلكم ، أما وقد أقدمتم على ذلك ، وخرجتم على حدود طاعتي ، ونقضتمحبال عهدي فلأقطعن أيديكم وارجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم في جذوع النخل ، عقابا لكم ، وتمثيلا بكم ،،، لأنكم كفرتم بنعمتي ونقضتم ميثاقي ، ولتعرفنكم أيام الزمن قوة بأسي ، وشدة عذابي ...
ولكن قوة الايمان وفيض النبوة ربطا على قلوب هؤلاء المؤمنين ، فأزال الله عن قلوبهم غشية الباطل وغمرة البهتان ، ودرجوا قدما نحو الصراط المستقيم ....
فقالوا لفرعون : ليس في سبيلك خير ... ولا رضاك أجر فلن نختارك على ما جاءنا من نور ساطع وحق قاطع ، فأوغل في وعيدك ،،، وأكثر من تهديدك ، فما انت إلا غوي مضل مبين ..
( إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما اكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .)
======
اتوقف هنا واعود لاكمل القصه مع عناد فرعون ...
تحياتي لكم
اختكم
غيوم