وقف موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل ، مذكرا لهم بأيام الله بعبارات تثير الأسى وتبعث الشؤون ففاضت العيون ، ورقت القلوب .
ولما انتهى من قوله تعلق بأهدابه رجل ،
وقال : أي رسول الله ، هل في الأرض من هو أعلم منك ؟
قال : لا .
أليس هو كبير أنبياء بني إسرائيل وقاهر فرعون ؟ أو ليس هو صاحب اليد والعصا ، بعصاه انفلق البحر ؟ أليس الله قد شرفه بالتوراة ، وكلمه جهرة وعيانا ، فأي غاية أبعد من هذه الغاية ؟ وأي شرف أسمى من هذا الشرف ؟
ولكن أوحى اليه ان العلم أعظم من أن يحويه رجل ، أو ينفرد به رسول ، وأن في الأرض من خصه الله بعلم أوفر من علمه ، ونصيب من الإلهام أوفر من نصيبه ،
قال : يا رب ، أين مكانه لعلي ألقاه ، فأصيب قبسا من علمه ، أو فيضا من إلهامه ويقينه ؟
قال : تلقاه بمجمع البحرين .
قال : اجعل لي علما يدلني عليه ، وآية ترشدني إليه ،
قال : أية ذلك أن تأخذ حوتا في مكتل ، فحيث فقدت الحوت وجدت الرجل ..
فأخذ موسى للامر عدته ، واصطحب فتاه ، وحمله المكتل ، ووضع الحوت فيه كما أوحى إليه ربه ، ظل سائرا وقبلته الرجل ، وأخذ على نفسه عهدا أنه سيظل مجداً في السير ممعنا في الطلب ، حتى يبلغ المكان، ولو مضت عليه الأيام ، أو تعاقبت السنون ، ثم آذن الفتى أن يخبره إذا فقد الحوت .
ولما بلغا مجمع البحرين ، في المكان الذي أراد الله أن يلتقي فيه نبي بني اسرائيل بعبده الصالح ، أخذت موسى سنةٌ فنام ، وفي أثناء نومه هضبت السماء فابتل الحوت وانتفض ، وسرت إليه الحياة ، ثم قفز الى الماء ...
واستيقظ موسى - عليه السلام - ونادى فتاه : هيا نواصل السير والسري ، وأنسى الشيطان الفتى ما كان من أمر الحوت ، وتابعا المسير إلى أن أدركهما التعب واحسا بالجوع ،
فقال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً .
ولما هم أن يأخذ الغداء من المكتل تذكر من أمر الحوت وذهابه في الماء ،
فقال : أرايت إذ اوينا إلى الصخرة ، وحين غشيك النعاس ، فإن الحوت قد اتخذ سبيله في إلى الماء ، ونسيت أن اذكرك ، وما أنسانس الا الشيطان ..
وحينئذ لاحت لموسى شارة الظفر ، ووجد ريح الرجل ، فقال : ذلك ما كنا نبغيه وننشده ، هيا بنا نعود إلى هذا المكان فإننا سنصله . ورجعا يقفوان الأثر ويعترفان الطريق ..
ولما وصلا إلى حيث فقدا الحوت وجدا رجلا نحيل الجسم ، غائر العينين ، عليه دلائل النبوة ، وفي وجهه فيض من السماحة والتقوى ، قد سجى بثوبه ، وجعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه الآخر تحت راسه ، فسلم عليه موسى
فكشف عن وجهه ، وقال: هل بأرض سلام ! من انت ؟
قال : أنا موسى
قال : نبي بني اسرائيل ؟
قال : نعم ، ومن أعلمك بهذا ؟
قال : الذي بعثك إلي .
فعلم موسى أنه ضالته التي ينشدها ، وبغيته التي جهد في سبيلها ، فتلطف في القول ، وتجمل بأحسن ما وهبه الله من أدب الحديث وفضل التواضع ،
وقال : هل تأذن أيها العبد الصالح لرجل جاهد في سبيل لقائك ، ولقي العناء حتى أصاب موضعك ، أن تفيض عليه من علمك ، وأن تقبسه من هديك ، على أن أتبعك ، وأسير في ظلك والتزم أمرك ونهيك ؟!!
قال له الخضر : إنك لن تستطع معي صبراً ، ولو انك صحبتني فإنك سترى ظواهر عجيبة وأمورا غريبة ، وسترى أمورا منكرة في ظاهرها ، وإن كانت حقا في باطنها ، ولكنك بما ركب الله في البشر من إلف القيل والقال والجنوح الى البحث والجدال ، سوف لا تسكت عن الاعتراض ، ولا تتورع عن الامتعاض ، وكيف تصبر على ما يخرج عن مألوفك ، ويتجاوز معروفك ؟
فقال له موسى وكان حريصا على العلم ، تواقا إلى المعرفة :
( ستجدني إن شاء الله صابرا ولا اعصى لك أمراً) سورة الكهف .
قال الخضر : إن صحبتني آخذ عليك عهدا وشرطاً ، أن تأخذ عدتك من الحزم والصبر ونصيبك من الجلد وضبط النفس ، فلا تبتدرني بسؤال ولا تثر أمامي أي اعتراض ، حتى ينقضي الشرط وتنتهي الرحلة ، وإني بعدها سآتي على ما في نفسك ، وأشفي ما بصدرك .
فقبل سيدنا موسى الشرط ، وقيد نفسه بذلك العهد ، وسارا على الساحل ، حتى لمحا سفينة في البحر ، فطلبا من أهلها حملهما إلى حيث يذهبون . ولما قرؤوا السماحة في وجههما ، ورأوا بريق النبوة يلمع في عيونهما ، حملوهما من غير أجرة ، وبالغوا في إكرامهما ، والحفاوة بهما ...
وبينما هما في السفينة ، وعلى حين غفلة من أهلها ، أخذ الخضر لوحين من خشب السفينة فخلعهما فهال موسى - وهو الرسول الكريم الذي أرسل لهداية الناس ورد عادية الظلم عنهم - أن يقابل صنيعهم بالإساءة، وجميلهم بالنكران ، وخشى أن يصيبهم غرق أو هلاك ، فنسى عهده وشرطه ، وصاح أتعمد إلى قوم أكرموا وفادتنا ، وأحسنوا لقاءنا ، فتخرق سفينتهم وتحاول إغراقهم ؟!
( لقد جئت شيئا إمراً ) سورة الكهف .
فالتفت الخضر اليه ، ومازاد على أن ذكره بشرطه ، وما قدره من قبل أنه سوف لا يصبر على سؤال ، ولا يسكت على مراء ،
وقال ... ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً) سورة الكهف
وحينئذ أدرك موسى ما وقع فيه من خطأ ، وما تورط فيه من نسيان ، فاعتذر إليه واستغفر من نسيانه ،
وقال : لا تؤاخذني بما نسيت ، ولا تحرمني شرف الصحبة ، وفضل المرافقة ، وسأكون بعد الآن كما شرطت .
وغادرا السفينة ، وتابعا السير ، فوجدا غلاما وضيئا يلعب مع لِداته وأقرانه ، فأخذه الخضر بعيدا ثم أضجعه وقتله ! ففزع موسى من هذا القتل ، وكبر عنده ذلك الإثم ، إذ رأى غلاما يافعا ، قد يكون وحيد اهله ، ورجاء والديه ، يقتل في غير ثأر ، ويسفك دمه من غير إثم ، على يد رباني كريم ، وإمام من أئمة الدين ! فتحلل من عهده ، وأطلق نفسه من ميثاقه ،
وقال : ما هذا المنكر الذي تأتيه ، والأثم الذي ترتكبه ؟
(أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكراً) سورة الكهف
فالتفت إليه الخضر ، لم يزد على أن ذكره بعهده ، وما كان من شرطه ، وما قدره مما سيكون من سؤاله عما لا يعرف ، وامتعاضه مما لا يألف ،،
قائلا : ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ) سورة الكهف
وهنا استحيا موسى ، وأدرك أنه قد أثقل على هذا العبد الصالح ، وكان خليقا به أن يتذرع بالصبر ، ويمسك لسانه عن الجدل ، حتى يفصح له بعد عما خفي من امره ، وما تشابه عليه من علمه ، وخشي إن تمادى أن يقع منه على موجدة أو كراهية ، فأتخذ لنفسه شرطا : ألا يعجل بسؤال بعد الآن وإلا فإن رفيقه في حل من مفارقته ، وقطع صحبته ، وقال :
( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً) سورة الكهف .
وانطلقا على هذا الشرط حتى أدركهما الطوى ، ونال منهما النصب والكلال ، وصادفا قرية في طريقهما ، فدخلاها طمعا في زاد يعينهما على السير ، ويمسكهما على الجوع ، ولكن أهلها - بما كانوا عليه من لؤم الأصل وكزازة النفس - أبوا أن يضيفوها ، وردوهما ردا غير جميل ، فلم يجدا عندهم مأوى ولا كعاما ، وخرجا جائعين ساخطين .
وقبل أن ينجاوزا القرية وجدا جدارا يتداعى للسقوط ، فأقامه الخضر ، وأصلح من شأنه ،
فقال موسى : عجبا !!!! أتجازي هؤلاء القوم اللؤم الذين أساؤوا بهذا الإحسان ؟! لو شئت لاتخذت على عملك هذا أجراً نسد به حاجتنا ونحفظ به على حياة أنفسنا !
قال الخضر ، وقد آمن بأن موسى سوف لا يستطع بعد الآن صبراً:
( هذا فراقا بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً) سورة الكهف .
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ، فيصيبون منها رزقاً ، يعينهم على الكسب ، ويقطعون به مفازة الحياة ، ولكن ملكا ظالما كان يتبع كل سفينة صالحة ، يأخذها من أهلها عنوة ، ويستولي عليها غصبا ، فأردت أن أعيبها ، رفقا بهم ورحمة لهم ، حتى إذا شهدها ملكهم تركها لعيبها ، فهذا عمل إن كان في ظاهره الفساد ففي باطنه الرحمة ، وإن كنت قد حسبته نكرا فإنما هو حفظ للمساكين وإبقاء على حياة هؤلاء البائسين .
وأما الغلام فكان وقاحا مبغضا من الناس ، وكان أبواه مؤمنين ، وبما فكر الله اللآباء على حب الأبناء ، وللدفاع عنهم بالحق وبالباطل ، خشيت أن يحملها هذا على التعصب له والميل إلى طريقته ، فينتهيا إلى الطغيان والكفر ، فقتلته حفظا لدينهما ، ورجاء من الله أن يرزقهما خيرأ منه زكاة وأقرب رحما .... وهو ما أراده الله ومما يقدر عليه الله من موهبة الحياة والموت ..
وأما الجدار فقد علمت من الله أن تحته كنزا ليتيمين صغيرين ، تحدرا من رجل صالح كريم ، فأردت أن أحمي هذا الجدار ، حتى يشتد أزرهما ، ويقوي على الحياة أمرهما ،، وبلوغ الحلم من إرادة الله ،، فيستخرجا كنزهما مالا حلالا طيبا لهما ...
ثم ختم كلامه بقوله : وما فعلت هذا بعلمي ولا برأي ،، ولكن وحي من الله وهدى منه ... وفي ذلك اعادة العلم والارادة لله سبحانه وتعالى ... وما هو الى وحي من الله وهدى منه ...
( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً) سورة الكهف .
ما اجمل الادب النبوي
+++++
اتوقف هنا واعود في وقت اخر لتكملة آخر جزء من قصة سيدنا موسى عليه السلام ..
قصة قارون
=====
تحياتي
اختكم
غيوم